الثلاثاء، 15 فبراير 2011

ثورة الشعب سنة ١٧٩٥

بيت مراد بك

كان محمد بك الألفى قد أسرف فى فرض ضرائب جزافية على سكان إحدى القرى القريبة من بلبيس عاصمة مديرية الشرقية فى ذلك الوقت. وكان للشيخ عبدالله الشرقاوى شيخ الجامع الأزهر حصة فى أرض تلك القرية فاستغاث به أهلها. وأتصل الشيخ الشرقاوى بأبراهيم بك ومراد بك لوقف هذه المظالم ولكن أعرض كل من الأميرين ونأى بجانبه. وثارت ثائرة الشيخ الشرقاوى وعزم على القيام بحركة شعبية كبيرة يهتز لها – فى ظنه – مركز هذين الطاغيتين، فذهب إلى الجامع الأزهر وكان ذلك فى شهر ذى الحجة 1209 (19 يونيو – 17 يوليو 1795) وجمع إليه المشايخ وأمر بأغلاق أبواب الجامع إيذاناً بأن أمراً إذا قد أرتكبه الحكام الطغاة. 

 

وأنطلق المنادون يأمرون بغلق الحوانيت وهجر الأسواق. وفى اليوم التالى كانت جموع الشعب تتجه من كل حدب وصوب إلى الجامع الأزهر. وأكتظ المسجد والحى بالحشود الشعبية وركب الشرقاوى والمشايخ العلماء كل منهم بغلته وتقدموا المواكب الشعبية الصاخبة وذهبوا إلى دار الشيخ محمد السادات. ووقع أختيارهم على هذه الدار لأنها كانت على مقربة من دار إبراهيم بك حتى يرى هذا الأمير غضبة الشعب على حكومته وقد نجح هذا التدبير إذ لما شاهد الأمير هذه الحشود المتراصة من الجماهير ولها عجيج وضجيج بعث مندوباً من قبله هو أيوب بك الدفتردار، فحضر إليهم وسلم عليهم، ووقف بين يديهم وسألهم عن مرادهم. فقالوا له: " نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات (الضرائب) التى أبتدعتموها وأحدثتموها". فقال: " لا يمكن الإجابة إلى هذا كله فأننا أن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات". فقيل له: "هذا ليس بعذر عند الله ولاعند الناس، وما الباعث على الأكثار من النفقات وشراء المماليك؟ والأمير يكون أميراً بالأعطاء لا بالأخذ". وقد وعدهم أيوب بك الدفتردار بالعودة إليهم بعد عرض مطالبهم على إبراهيم بك. وهكذا تطورت المسألة من مجرد حركة فردية تستهدف المطالبة بوقف إعتداءات محمد بك الألفى على قرية فى مديرية الشرقية إلى حركة شعبية تنادى بضرورة وضع حد للمظالم التى يتعرض لها الشعب ومطالبة الحكومة بضغط المصروفات والحد من الأسراف فى أستيراد المماليك وتأمين الأفراد على أموالهم وأرواحهم.

ولما لم يعد مندوب إبراهيم بك إلى الزعماء فى دار السادات قرروا المضى فى حركتهم ورجعوا وعهم جموع الشعب الثائر إلى الجامع الأزهر، وقضوا ليلتهم فيه، وما أقبل ضحى اليوم التالى حتى تقاطرت جموع أخرى من الشعب من بولاق ومصر القديمة والجيزة والبلاد المحيطة بالقاهرة وأنضمت هذه الجموع إلى حشود اليوم السابق وأصبح الموقف ينذر بشر مستطير. وأستشعر إبراهيم بك خطر هذه الحركة الشعبية الهادرة. وأرسل إلى المشايخ يسترضى الشعب ويعلن أنه يؤيده ويستنكر تصرفات المماليك. وأخذ يثير مخاوف زميله مراد بك من تفاقم الموقف، ونزل الأخير عن غلوائه، أو لعله تظاهر بذلك، فأرسل إلى المشايخ يقول أنه أقلع عن ظلم الشعب وطلب أربعة من المشايخ "عينهم بأسمائهم"، فذهبوا إليه بالجيزة فلاطفهم والتمس منهم السعى فى الصلح.
وفى اليوم الثالث على بدء هذه الحركة عقد أجتماع فى دار إبراهيم بك حضره الباشا وقاضى القضاة والأمراء البكوات ما عدا مراد بك، وأستقر رأى المجتمعين على ضرورة العمل على أنهاء هذه الحركة الشعبية ومفاوضة الزعماء لعقد الصلح. وأرسلوا مندوباً عنهم إلى الجامع الأزهر حيث أجتمع بالزعماء، وطلب أن يصحبه وفد منهم إلى دار إبراهيم بك. وتألف وفد من خمسة أعضاء هم، وفق الترتيب الذى ذكره الجبرتى: الشيخ السادات، السيد عمر مكرم نقيب الأشراف، والشيخ عبد الله الشرقاوى شيخ الجامع الأزهر، والشيخ خليل البكرى شيخ السجادة البكرية، والشيخ محمدالأمير، والأخير من صفوة كبار العلماء، أشتهر بجرأته وشجاعته وأغلاظه القول للأمراء المماليك.
أرادت جموع الشعب الصاخبة أن تسير وراءهم إلى مكان الأجتماع فمنعهم المشايخ وطلبوا منهم الأنتظار فى الأزهر، وطالت الجلسة وقرر الأمراء المماليك فى نهايتها " أنهم تابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء عليهم"، وأنعقد الصلح على أن يرسلوا إيراد الأوقاف المرصودة على الحرمين الشريفين فى الحجاز من أموال وغلال، وأن يفرجوا عن الحبوب وسائر المحاصيل الزراعية المودعة فى مخازن الأمراء ليشتريها الشعب، وأن يرفعوا أيديهم عن إيراد الأوقاف الخيرية، وأن يقلعوا عن المظالم المحدثة، وأن يكفوا اتباعهم عن أمتداد أيديهم إلى أموال الناس. وكتب القاضى حجة شرعية سجل فيها هذه العهود والمواثيق ووقع عليها الباشا وختم عليها إبراهيم بك، وأرسلت إلى مراد بك فختم عليها هو الآخر.
وفى أثناء هذا الأجتماع كان الشعب قد أستبطأ عودة زعمائه إليه من دار إبراهيم بك وخشى أن يكون قد حاق بهم مكروه، فزحفت جموع الشعب إلى دار الأمير وأحاطت بها. ويصور الجبرتى أبتهاج الشعب بأنتصاره فى غضبته على الأمراء المماليك فيقول: " وأنجلت الفتنة ورجع المشايخ، وحول كل واحد منهم، وأمامه وخلفه، جملة عظيمة من العامة، وهم ينادون حسب ما رسم سادتنا العلماء، بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة من مملكة الديار المصرية. وفرح الناس وظنوا صحته وفتحت الأسواق وسكن الحال على ذلك نحو شهر، ثم عاد كل ما كان مما ذكر وزيادة، ونزل عقب ذلك مراد بك إلى ضمياط وضرب عليها الضرائب العظيمة وغير ذلك...!
المصدر:
د.عبد العزيز محمد الشناوى، عمر مكرم بطل المقاومة الشعبية، دار الكتب العربى للطباعة والنشر، ص.ص 31:28

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق