فى قراءة لكتاب قديم، نادر حبيب يكتشف أنه كان هناك حرب ما بين الرجعية والتقدمية فى كل الثورات الماضية، آخذين الرأس المصرية ميدان للقتال، ليثبت كل طرف قوته وتمسكه برأيه
لم تكن ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 هى الوحيدة فى مصر التى خرج فيها الشباب ليطالبوا بحقوقهم ولكن كانت هناك ثورة فى عشرينيات القرن التاسع عشر، أبطالها الشباب أيضاً خرجوا فيها على التقاليد البالية والعادات التى قد تضر أكثر مما تفيد، لكى تعد مجتمع متقدم يحبوا بعيدا عن كل مظاهر الضعف والهوان وذل الأستعمار بشتى ألوانه، وحتى وأن كان فى الأزياء.
فى سنة 1961 قام الدكتور خليل صابات مدرس الصحافة بكلية الآداب بدراسة حول موقف الصحافة المصرية من العمامة والطربوش فى 24 ورقة فقط وكانت وقتها العمامة والطربوش يمثلا التخلف والرجعية والأستعمار فى مقابل القبعة الأوربية التى دخلت فى صراع معهم كمثال للديمقراطية والتقدم ولكن مع منتصف القرن العشرين تمرد الجيل بأكمله على أغطية الرأس فى صورة تنم عن رفض السلطة والتحرر من كل القيود المفروضة على الأنسان المصرى الذى ولد وعاش ومات حراً.
تبدأ أحداث الصراع بين العمة والطربوش أقصد الصراع بين القديم والجديد مع بداية عام 1926 عندما قرر طلبة دار العلوم – وكانوا يرتدون وقتها العمة والقفطان – تغيير زيهم التقليدى إلى الطربوش – الطربوش منقول عن اليونانيين وقد لبسه السلطان العثمانى محمود الثانى فى أواخر أيامه وأقتفت مصر خطوات سائر الولايات العثمانية فى لبسه - والبدلة، وكانت صحيفة كوكب الشرق هى أول من فتحت صدرها لهؤلاء الطلبة المتمردين على كل ما هو عتيق، وخرجت مجلة روزاليوسف فى فبراير من العام نفسه بحملة قوية على وزارة المعارف آنذاك التى تشبثت فى حرية الطلبة فى لباسهم ومالها وعمائمهم وطرابيشهم أليس غريب أن تقفل فيه أبواب العلم فى وجوه الطلبة لا لشئ إلا لأنهم يريدون التجديد ...؟ وعندما زادت حدة الحرب ذهب طلبة دار العلوم إلى الشيخ شاكر وكيل الجامع الأزهر، يستفتونه فى هذه المسألة فقال لهم : إن الدين لا يكلف أحداً إلا بما يستر العورة، وله أن يلبس بعد ذلك ما يشاء ... وقرر أنه لا يتحتم على المرء، إذا أسلم، خلع زيه من أجل إسلامه وأنه لا حرج فى لبس كل ما يجرى به العرف حتى لو أعتبر الصليب شارة شرف مثلاً لجاز له .
أما الأستاذ طاهر الطناحى كتب فى كوكب الشرق يقول "إن التطور سنة من سنن الأحياء ونحن فى عالم متحرك لا يقف عند حد، وفى عصر تنبهت فيه الأفكار، ونضجت فيه العقول، وقد ذهبت آثار القرون الوسطى، وقامت دار العلوم تطلب تغيير زيها، فهل يتاح لتلك الروح الشقية أن تلقى قبولاً من وزارة المعارف كما لقيت من جميع الآباء "
ولم تمض سوى أيام وحدث أن الحرب قد بدأت بالفعل فقد قامت وزارة زيور باشا بمنع أكثر من 600 طالب قد غيروا زيهم بدار العلوم من الدخول إلى المدرسة فى مقابل 100 طالب ظلوا بزيهم القديم وبالطبع هذا يعتبر تدخل فى حرية الفرد، وتتسائل كوكب الشرق لماذا تقف الوزارة وتتشبث بهذا الأمر التافه وتنتهز بالطبع الفرصة لتهاجم وزير المعارف على ماهر باشا وتقول "بما أن الوزير ميت فى دباديب العمة" فلماذا لا يخلع طربوشه ويلبس العمة حتى يكون على الأقل قدوة حسنة لطلبة دار العلوم"، وعندما أحتد الأمر ذهب الطلبة إلى شيخ الجامع الأزهر وطلبوا منه موافقته على زيهم الجديد فرفض وقال لهم "إن لم تعودوا إلى زيكم الأصلى، فأنى أكون مضطراً إلى إخراجكم من المدرسة وأستبدال إخوانكم الأزهريين بكم"
وفى هجوم جديد على وزارة زيور باشا فى كوكب الشرق ولكن هذه المرة بأسلوب ساخر تميز به المصريين عن غيرهم من الشعوب فى المعالجات الصحفية، وتقول : "إنى ألومكم وألوم جميع الكتاب الذين يحملون على وزارة المعارف لمقاومتها زى طلبة دار العلوم الجديد، الم تعاهد الوزارة الأمة أمام ضميرها وخالقها والعالم أجمع على أن تنقذ كل ما يمكن إنقاذه؟ وها هى قد رأت – العمة - كادت تتدهور ورأت أيضاً أنها إن لم تبادر بإنقاذها فستحل بالأمة كارثة أشد هولاً من ضياع السودان وواحة جغبوب. فهل تلام بعد ذلك إذ أنذرت وتهددت وأرعدت وأرسلت جيوشها إلى دار العلوم لمقاومة هؤلاء العصاة المتمردين"؟ وشارك أحمد الصاوى محمد بأسلوب لا يخلو من الدعابة فى جريدة الأهرام وتحت عنوان ما قل ودل بكلمة تأييد للفريق الذى ينادى بترك العمامة ولبس الطربوش، فهو يرى "أن لهم الحق كله فى أن يتخذوا لأنفسهم الزى الذى يرضيهم .. فالعمامة فى الواقعلا تنفعهم بشئ وتؤذيهم فى كثير .. ألم تر كيف تصرف عنهم فى الطريق عيون المها .. فإذا جد الجد فالعمامة تحول أيضاً بينه – يقصد الطالب – وبين الأندماج فى سلك الوظائف العامة غير التعليم " وهو يؤكد أن مثل هذه التغيرات الأجتماعية تفرح المتعقلين لأن هذا التمرد يشير ويبشر بالمستقبل .
وتبدأ المرحلة الثانية من الصراع عندما ثار طلبة مدرسة الحقوق ومدرسة المعلمين العليا على الطربوش فيستبدلونه بالقبعة تشبهاً بحركة الزعيم التركى مصطفى كمال أتاتورك، وينظر الكل بترقب كيف ستتعامل وزارة المعارف مع هاتين المدرستين، هل ستغلق أبواب المدرستين فى وجوههم؟ وصعد على باشا ماهر وزير المعارف موقفه وأرسل إلى ناظر مدرسة العلوم ليبلغ الطلبة أن من لا يعود إلى مدرسته بالزى المقرر لها أبتداء من صبيحة يوم الأربعاء 24 فبراير 1926 يفصل من المدرسة. وتمسك الطلبة المهددون بالطربوش والبنطلون وأبوا لبس القفطان والعمامة رغم القرار الصادر بفصلهم من المدرسة، فقد دخل طلبة السنة النهائية بدار العلوم بالزى الجديد مختفياً تحت زى الشيوخ ولما أستقروا فى حجرات الدراسة خلعوا زى الشيوخ وبقوا بالزى الجديد فطلب منهم الناظر الخروج من المدرسة فرفضوا وفى أثناء ذلك تدخل رجال الشرطة، وفى اليوم الموعود منعت إدارة دار العلوم الماء والطعام عن الطلبة لإجبارهم على الخروج، ولكن دون جدوى، فقد أعتصم الطلبة بالمدرسة وأمضوا الليلة فيها...ولم تنحصر هذه الحركة فى دار العلوم بل تعدتها إلى موظفى مجلس مديرية الشرقية الشيوخ الذين قرروا أن يغيروا العمامة والقفطان ويستبدلونهما بالزى الأفرنجى.
ورأت جريدة الأهرام كمنبر للتقدم أن تقف فى صف المنادين بالتجديد، وأن سبب مقاومة الحكومة لهؤلاء التلاميذ ربما كان آتياً من قبل الأنجليز، حيث أن السادة الأنجليز أظهروا مثل هذه المقاومة فى السودان على أثر تأليف جمعية اللواء الأبيض.. ذلك أنهم أجبروا الموظفين السودانيين الذين كانوا يلبسون العمامة ثم نزعوها ولبسوا الطربوش، على العودة إلى الثوب القديم، وأكدت الجريدة فى موقفها أن تغيير الأزياء هو تغيير حسن يدل على النشاط والتقدم من الوجهة القومية، والنشاط من هذه الوجهة يدل على إهتمام بالنهضة الوطنية، وهو ما يعنى طلب الحقوق، وطلب الحقوق يضايق السادة المستعمرين.
أما من جهة أخرى فأن الحركة التى أنتشرت بين طلبة المدارس العليا منادية بخلع الطربوش ولبس القبعة فقد لاقت مقاومة شديدة من الوفديين، ذلك أن اللجنة التنفيذية للطلبة أذاعت بياناً نشرته لها الصحف جاء فيه أن الدعوة إلى خلع الطربوش ولبس القبعة "بدعة فأنفوها، وقتنة فقاوموها بالرفض ولا تقولوا أن الترك قد سبقونا إلى ذلك، فلهم شأنهم ولنا شأننا." وأكدوا فى نهاية البيان أن سعد زغلول زعيم الأمة والمثل الأعلى للشباب لازال يرتدى الطربوش، ورد أحد الطلبة على هذا البيان أن اللجنة قد سبقت الدعوة إلى لبس القبعة ويدعوها إلى توضيح الحقيقة، ويقول إن الرسول قد لبس من قبل الطيلسان الذى أهداه إليه أحد الروم!"
وتدور رحى الصراع وتكبر دائرة الحرب وتدخل مجلة الكشكول - مجلة أسبوعية سياسية إنتقادية تعتمد على المقال والرسوم الكاريكاتورية فى بث رأيها – المعركة وتحلل الموقف لتعلن أن مقاومة الحكومة للطربوش فى دار العلوم، وللقبعة فى المدارس العليا ليس مصدرها على ماهر باشا بل ورائها القصر الملكى، صن الرجعية الحصين ، ولا شك أن الملك فؤاد كان خلف تعنت الوزارة مع طلبة دار العلوم. فكل تجديد يخفيه حتى إن كان هذا التجديد منصباً على الزى.
ولأن سعد زغلول باشا كان زعيم الأمة فقد كان من واجبه أن يشارك برأيه عندما توجه إليه بعض الطلبة ليسألوه عن فكرة تغيير الطربوش بالقبعة فرد عليهم بأنه : "يعتبر الشعائر والعادات التى عممت بين قوم ورسخت فيهم وتلقاها الأبناء عن الآباء، من مقومات القومية وشخصياتها ومنابع نمائها التى تفيض على من تمكنت فيهم شعوراً من المودة والأنس، يعرف مقداره كل من تتبع تواريخ الأمم، ومن سمحت له فرص تلاقى فيها بمن شاركه فى شعائره وعاداته ومن خالفه فيها.. وإن الذى يلاحظ ميول نفسه وأنفعالاته، وهى تختلف بين ألأنس والوحشة والمودة والنفرة والأنشراح والأنقباض، يعرف مقدار ما لهذه الحالات من التأثير فى تربية الروح الوطنية وتقويتها. ومن أجل هذا يجب أن يحافظ عليها كل المحافظة، وألا يبدل شئ منها بآخر، إلا إذا كان مضراً ضرراً عاماً أثبته الأختبار، لأن العمل على تبديله حين لا ضرر فيه، تقليداً للقوى أو رغبة فى كسب أحترام مزيف، هو إسلام للقومية وتفريط فى تنفيذ الوصية التى كتبها الآباء علينا وهروب من الدفاع عن الوطنية الصحيحة، وسقوط فى الهمم! وما مثل الذين يبدلون شعارهم بشعار غيرهم، إلا كمثل الذين يتبرأون من أنسابهم وينتسبون إلى غيرهم واهمين أنهم يكسبون شرفاً بهذا الأنتساب، ولكنهم لا يكسبون إلا غضب الآباء وإلا أن ينزلوا فى غيرهم منزلة الأدعياء..."
ومما سبق لا يمكن أن نفسر موقف العداء الذى وقفه سعد زغلول وحزب الوفد من ورائه إلا بالخوف الذى كان يشعر به من أن يتحول الرأى العام عن المطالبة بالحقوق الوطنية إلى مناقشات – قد تطول – فى فوائد القبعة ومضار الطربوش. يضاف إلى ذلك أن سعداً كان ينتمى إلى ذلك الجيل المتمسك بالعادات والتقاليد ويعتبرها جزءاً لا يتجزأ من القومية، وأن فى التخلى عن بعضها تخل عن القومية نفسها.
وكعادتها دخلت مجلة الكشكول فى صورة كاريكاتورية فى عددها الصادر 19 مارس 1926 لسعد زغلول رئيس حزب الوفد وأمامه طالب مصرى يلبس طربوشاً وعلى منضدة قبعة وعلقت فى الخلف عمامة وقفطان. ويسأل الطالب سعد زغلول :"أيه الفرق يا دولة الرئيس بين تغيير العمة بالطربوش وتغيير الطربوش بالقبعة، وأشمعنى دولتك ترضى بترك العمة ولا ترضى بترك الطربوش؟" فيرد سعد : "لأن الطربوش عمة عريانة والبرنيطة مقطف!". أما الأهرام فقد ذكر خبراً مؤداه أن وفداً من طلبة مدرسة الحقوق قابل سعد زغلول فسألهم إن كانوا من أنصار الطربوش أم القبعة "فأجابوا جميعاً على الفور: من أنصار الطربوش. فقال مرحباً بكم".
وخرج شيوخ معهد طنطا الدينى ببيان فى الصحف تحت عنوان "إلى عموم المسلمين" قالوا فيه إن "لبس القبعة حرام بإتفاق جميع المذاهب وخروج على السنة والإجماع. فقد أتفق أئمة المذاهب الأربعة على أنه يحرم على المسلم لبس الزى الخاص بالكفار اللميز له..!" ورداً على تلك الفتوى نشرت جريدة المقطم وبإمضاء محفوظ مقالاً بعنوان "إباحة لبس البرنيطة" جاء فيه "لما قدم المرحوم الحاج على أفندى تقى، مفتى جزيرة قبرص إلى مصر ليسافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج أجتمع بالمرحوم الشيخ محمد عبده... وتناقشا حول مسألة جواز لبس القبعة خصوصاً للين يسافرون إلى بلاد الأفرجة، وأخيراً أتفقا على لبسها ما عدا لبس الزنار والصليب.. وبلغنى أن المرحوم الشيخ محمد عبده أفتى بإباحة لبسها.."
وتحت عنوان "الزى والدين" أنتقدت الكشكول الفتوى وذهبت إلى القول بأن صاحبيها لم يعملا أكثر من التوقيع عليها وأستدلت بذلك على أنهما من مواليد القرون الأولى يعيشان فى مصر غريبين على هذا العصر، وبعد أن تحدث كاتب المقال عن معنى الإيمان وأنه فى القلوب لا فى الصور قال مهاجماً "القبعة نفسها": "أنا أبغض أن نتخذ نحن المصريين هذه القبعات لأنى أبغض أن نضع فوق رؤسنا شيئاً لا يثبت على حال واحدة ولا تميزه صورة مخصوصة، ثم لأنى أبغض أن نأخذ من أزياء الأجانب وألبستهم ما ليست لنا به حاجة صحيحة، وما لابد أن يرونا مقلديهم فيه لنجد من التشبه بهم شيئاً من العزة يذهب عنا مذلة العمة والطربوش، ولكنى على بغضى أن ندخل على أزيائنا هذه القبعة، لا أفهم كيف يطير الإيمان من قلبى حين أضعها على رأسى؟! ... فليشهد الشيخان الجليلان أننى صدقت فتواهما فى تكفير المسلم حين يلبس القبعة، وليشهدوا أننى نويت نية صادقة وعزمت عزماً وثيقاً أن أباعد بين القبعة ورأسى حتى يرجعا فيغدقا على الناس من علمهما فتوى أخرى تحل البرانيط، وتحرم الزعابيط، وكأنك بهذه الفتوى وقد أقتضتها شؤون مقبلة وهبط بهما على قلب الشيخين وحى مسموع وتنزيل مطاع... ولكنى أحب للشيخين أن يحرصا على إيمانهم وأن يصدقا فتواهما تصديق الناس لها، وقد طمعت أن أجد السبيل إلى ذلك فعجزت، أليس العلماء – وهم فى المقدمة – يلبسون ما يسمونه الفراجية، والفراجية ثوب قساوسة النصارى وحاخامات اليهود، وهى ليست ثوباً عاماً لليهود وللنصارى لكنها ثوب رجال الدين منهم خاصة، وهى ليست منتقلة من علماء المسلمين إلى القساوسة والحاخامات ولكنها منتقلة من هؤلاء إلى ساداتنا العلماء، فهل يرى الشيخان فى فراجيتهما ما رأيا فى قبعة الناس؟!". أما العمة نفسها فلم يكتبها كاتب المقال حيث أكد أنها شاعت بين المسلمين والكفار أيضاً، فيقول "وأما العمة السوداء فالعامة من أبناء طائفة الرفاعية يشاركون فيها القسوس من أبناء الطائفة القبطية، فهى كما تقع على دماغ الحاج حمودة تسقط أيضاً على قرعة أبونا شنودة، فما حكم الشيخين فى عمتهما البضاء والعمائم الرفاعية السوداء؟ أهو الكفر أم الإسلام وماذا يقولان فيما صنعا أهو فتوى دين أم لغو كلام؟!".
وفى 3 يوليو 1926 أرتدى الدكتور محمود عزمى القبعة أول مرة وتحت عنوان برنيطة زميل قدمت مجلة الكشكول رأى جماعة الأطباء فى غطاء الرأس وقرارهم الغالب أن القبعة أحفظ للرأس والعينين صحياً من الطربوش، وهذا ماأكدته الجمعية الطبية المصرية حيث أعلنوا أن الطربوش بسبب نوع قماشه وشكله ولونه وخلوه من المسام وثقله يدفئ الرأس أكثر من اللازم فى الصيف ويسبب فيه عرقاً غزيراً ومضايقة وصداعاً، فهو بلا نزاع من الوجهة الصحية ضار بالعينين والرأس. والجمعية ترى أن أفضل لباس للرأس يوافق جو مصر فى زمن الصيف القلنسوه البضاء المصنوعة من الفلين والتى بها ثقوب كافية لدخول الهواء. وأما فى الشتاء فالطربوش أقل ضرراً منه فى الصيف إذا كان لابد من أستعماله وإلا فالقبعة العادية أصلح منه فى الشتاء أيضاً، فأن أختلاف أقمشتها وألوانها وأشكالها لا يسهل علينا أختيار الموافق منها صحياً لأختلاف الطقس.
وعلى الرغم من هذه الثورة العارمة التى قامت على الطربوش ومن يلبسه من الناس، فقد ظلت المدارس الأميرية والأهلية تحتم لبس الطربوش على كل تلميذ، فإذا حدث ودخل أحد التلاميذ بدون طربوش طرد من المدرسة ولقبه ناظرها لقب "أفندى ناقص طربوش" وكان المدرسون الأجانب من الأنجليز والفرنسيين لا يدخلون الفصل إلا وعلى رؤوسهم الطرابيش وظل الأمر كذلك إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ونتيجة لهذا العداء ورغبة من الحكومة فى أستمرار هذا الطربوش تقرر عمل مشروع القرش الذى خصص حصيلته لإنشاء مصنع للطرابيش، فى سنة 1932 ووضع حجر أساسه الدكتور على إبراهيم فى العباسية، وقد أغنى هذا المصنع المصريين عن أستيراد الطربوش من الخارج، وقد علمت مجلة المصور فى وقتها أن نتيجة الحملة على الطربوش خلال سنة 1926 قد أثرت على العدد الذى بيع منه فى سنة 1927، فبينما وصل عدد الطرابيش المباعة فى سنة 1926 إلى 50600 طربوش فقد أنخفض فى السنة التالية إلى 37331 طربوشاً، ولما هدأت الحملة، عاد العدد إلى الأرتفاع فبلغ 55069 فى سنة 1928 ورجع وأنخفض عدد المباع منه إلى 23567 طربوشاً نتيجة الأزمة الأقتصادية العالمية سنة 1930.
وبعد أن مرت ست سنوات على أول صيحة ضد الطربوش، بدأ الناس يخففون تدريجياً من لبسه، ولكن الحكومة ظلت متمسكة به، فلم يكن الموظف يجرؤ على خلعه أثناء تأديته لعمله وكذلك رجال الشرطة والجيش، حتى 6 ديسمبر 1938 حينما صدر الأمر الملكى بالموافقة على مشروع كانت وزارة الحربية قد قدمته إلى القصر بشأن تغيير ملابس ضباط سلاح الطيران وجنوده وكذلك شارات الرتب وأسمائها، على أن ينفذ أبتداء من أول يناير 1939 وقد أستبد بالطربوش غطاء للرأس شبيه بالكاسكيت وجعل هذا الغطاء من نوعين لكل واحد منهما أسم يتميز به، وأطلق على أحدهما أسم الفاروقية للشتاء وأطلق على الآخر الفؤادية وخصص للصيف وهى وبنفس اللون ولكن تمتاز عنها برفرف أمامى من القماش المقوى للوقاية من حرارة الشمس، وقصر الأمر الملكى لبسهما على أوقات العمل فى سلاح الطيران دون غيرها، فإذا أنتهى الطيار من عمله لبس الطربوش، وكان هذا دليل آخر على أن الملك كان يخشى أن يتبادر إلى ذهن المصريين أن النية متجهة إلى صرف النظر عن الطربوش، وظل رجال الجيش فيما عدا رجال سلاح الطيران – يرتدون الطربوش إلى أن صدر الأمرالعسكرى رقم 248 فى 2 أغسطس سنة 1947 مقرراً أرتداء كل من الفؤادية والفاروقية علاوة على الطربوش الذى فرض لبسه فى التشريفات التى تقام بالقصور الملكية وفى الحفلات الساهرة والولائم التى تقام فى هذه القصور، وحفلات أستقبال الملوك والسفراء والوزراء. ويبدو أن تسمية لباس الرأس الجديد بالفؤادية والفاروقية قد أرضى الرجعية التى لم تر بأساً فى أن تتنازل عن الطربوش مادام سيحل محله ما يذكر لابسيه بها، فقد زال الرمز وبقيت هى...
لقد كانت الثورة على الطربوش أشبه بموجات المد والجزر وكان ذلك بفضل الصحافة التى كانت ولا تزال وراء كل حركة تقدمية، ومهما كان الصراع بين المؤيدين والمعارضين، فقد كان أغلب المصريين يشعرون بأن نهاية الطربوش قد أقتربت، وأنه لولا الحكومة أو قل لولا القصر وتمسكه بهذا الرمز لأختفى الطربوش من على الرؤوس، وعلى أى حالن فإن طلبة الجامعة الذين كانوا يلبسون الطربوش فى تلك السنة كانوا قلة لا تذكر، أما موظفوا المصارف والشركات والمحال التجارية فقد خلعوه وساروا مكشوفى الرأس.
وعندما قمت الثورة فى 23 يوليو سنة 1952، وطرد الملك، أنهار ركن الرجعية، وكان الضباط الأحرار يلبسون القبعة العسكرية، لكن الوزراء المدنيين ظلوا يلبسون الطربوش وكذلك رجال القضاء والموظفين، فما كان من صلاح حافظ إلا أن يكتب مقالاً فى مجلة التحرير بعنوان "أطردوا بقية فاروق" هاجم فيه الحكومة على حمايتها للطربوش وأعتبرها مسئولة عن بقائه على الرؤوس، ولا يجد فى مقاله سبب لبقاء "ذلك التركى الأحمر" فلا يجد، أما الشعب فأنه يتهم الحكومة بأنها سبب بقاء الطربوش على الرؤوس، والحكومة ساكتة، والسكون معناه شئ واحد/ أن الإتهام حق، ولم تمض سنتان على هذا المقال وإلا الطربوش قد أختفى من على الرؤوس.
لقد أنتهى عهد الطربوش بعد أن ظل على الرؤوس نحو قرن من الزمن. وقد بذلت الصحافة فى سبيل إزالته جهوداً جبارة، ونستطيع أن نقول إن ثورة الصحافة على الطربوش فى سنة 1926 كانت إيذاناً بنهايتهز لقد هاجمته الصحافة لأنه كان رمزاً للرجعية التى كانت تحكم البلاد وتحول بينها وبين كل تقدم، وبزوال الرجعية زال الطربوش وزال كل ما كان يترتب عليها من جمود وعدم حركة، وأنطلق الشعب يبنى صرح مستقبله بهمة لا تعرف الكلل تتقدمه الصحافة تضئ له معالم الطريق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق