فى قراءة لكتاب قديم عن رسائل محمد نجيب للسودان، نادر حبيب يكتشف أن الخطط الأستعمارية
![]() |
ملازم ثان محمد نجيب عام 1921 |
فى هذه الآونة التى يشهد فيها العالم أنقسام دولة السودان لأسباب عرقية وسياسية وإجتماعية وأقتصادية، يجب أن نتذكر الرئيس محمد نجيب أول رئيس مصرى بعد الثورة سنة 1952، لأنه أول من أهتم بالسودان بالشكل الذى يليق به، ولكن لأن التاريخ لم يمهله فرصة الإنتهاء مما كان يحلم به بعد أن عزله جمال عبد الناصر وبقية ضباط قيادة الثورة، لأنه كان يدعو إلى عودة الأحزاب السياسية لتكون مصر دولة ديمقراطية مبنية على أساس ديمقراطى قوى.
يرجع أهتمام نجيب بالسودان كونه أحد أبنائه، فقد نشأ وترعرع فيه، وقضى طفولته وصباه وشبابه الأول فى السودان، وطاف بين أنحائه وهو بعد دون السادسة عشر من عمره، فعرف الخرطوم وأم درمان وحلفا ودلقو وسنجا وأبو نعامة بجوار الرصيرص وواد مدنى وغيرها من مدن السودان، فأكتسب من ذلك تجربة وخبره بالسودان وأهله تفوق خبرة السودانى الأصيل، الذى عاش فى رقعة واحدة من أنحاء هذا القطر الفسيح.
ولم تكن صلة الفتى محمد نجيب بالسودان صلة عابرة، صلة الأبن الذى عاش فى كنف والده الضابط بالجيش والموظف المصرى بالسودان فترة من الزمن طالت أو قصرت، ولكنها كانت صلة بعيدة الغور، تمتد إلى أجداده، وترتد إلى نحو قرن من الزمان، فصلة الدم من ناحية وصلة النشأة من ناحية أخرى، تعاونتا فى تكوين شخصية هذا الفتى وتصوير عواطفه نحو الوادى وأهله شماله وجنوبه، لأن أهله وذوى قرباه، قد توزعت بيوتهم بين شمال الوادى وجنوبه، لقد وضع الرئيس محمد نجيب الرسائل للسودان فى عام 1943، وكان وقتها ضابطاً برتبة البكباشى فى سلاح الحدود، وفى جميع هذه الرسائل كان يهدف إلى التعريف بالسودان ونشر الحقيقة عنه.
كتب البكباشى أركان حرب محمد نجيب قائد الفرقة الثانية سيارات الحدود الخفيفة، فى رسالة له بعنوان يد الأستعمار على حدود السودان قائلاً: " فى أوائل سنة 1934 وقع نظرى على خريطة معلقة فى سفينة هولندية راسية بميناء الطور – كنت قد دعيت وبعض أخوانى الضباط لزيارتها فوجدت على هذه الخريطة السودان جميعه ملوناً بلون المستعمرات البريطانية بما فى ذلك المناطق التى تعتبر بلا مواربة جزءاً من الوطن السودانى فوجهت التفاتى لدراسة تاريخ هذه الحدود وحاولت على قدر إستطاعتى أن أنبه أذهان المسؤولين إلى ذلك، وإلى هذا النوع من أنواع التملك الذى تلجأ إليه السياسة البريطانية، وذلك بتلوين الأقاليم بلون مستعمراتها ونشر ذلك فى الخرائط العالمية حتى يصبح حقيقة واقعة. فقد لاحظت ذلك فى جملة مناسبات منها أنى وأنا تلميذ بالسنة الأولى الأبتدائية سنة 1908 كنت أرى مستعمرة عدن مبينة على الخرائط كنقطة مستديرة حمراء قاصرة على نفس الميناء فما أن وصلت إلى السنة الثالثة حتى وجدت هذه المنطقة قد خرج منها شريط أحمر يمتد على الخريطة بضع سنتيمترات للشرق على ساحل حضرموت، وما أن أتممت الدراسة الأبتدائية حتى رأيت هذا الخط وقد أنتد حتى وصل إلى حدود ولاية عمان التى على ساحل الخليج الفارسى وأصبح يشمل المحميات السبع وغيرها (الإمارات).
ولا يفوتنى أن أذكرأن الأنجليز قد تناولوا حدود مصر والسودان بكثير من التعديل والتغيير وقد بلغت بهم الجرأة أحياناً أن يتعاقد حاكم السودان مع إحدى الدول الأجنبية بذكر صفة واحدة له وهى أنه بصفته ممثلاً للدولة البريطانية دون أن يذكر شيئاً عن نيابته عن مصر بصفته حاكماً عاماً للسودان، ينوب عن الدولتين.
وفى جميع هذه التعديلات لحدود السودان الشرقية الغربية والجنوبية على حساب الوطن السودانى والمصرى لاسيما بعد أن أتفقت كلمة دول الأستعمار الأوروبى فى أخريات القرن الماضى (القرن التاسع عشر) على تنسيق مناطق نفوذها فى أفريقيا. لم تكن بريطانيا تستهدف سوى تحقيق منافعها الإستعمارية. وكان نتاج ذلك هو مجموعة من الأتفاقيات التى تمت بين بريطانيا العظمى وبين مجموعة من الدول الأوربية (ألمانيا- بلجيكا – فرنسا - إيطاليا) والتى أنتهت بأقتطاع مناطق عديدة من السودان.
![]() |
الأميرالاى أركان حرب محمد نجيب بين ضباط وجنود السودان سنة 1948 |
وهذه الأتفاقيات أنما تدل على أن بريطانيا قد أستباحت لنفسها حرية التصرف فى أراضى الوطن السودانى وسلمتها لقمة سائغة لغيرها من الدول الأوربية إرضاءاً لسياسة الأستعمار القائمة على تقسيم مناطق النفوذ غير عابئة بحقوق الوطن السودانى وشعور أهله وهو نفس ما فعلته فى مصر من قبل عندما تصرفت فى حدود مصر الشمالية الشرقية ، وفى حدود مصر الغربية عندما تنازلت عن واحة جغبوب لأيطاليا وميناء برث سليمان غربى السلوم سنة 1925.
أما فى رسالته " ماذا يجرى فى السودان؟" يتعجب نجيب أنه وبالرغم من وجود عدد كبير من السودانيين فى مصر إلا أننا كمصريين لا نسعى لمعرفة أحوال السودان منهم، أو للدعاية لمصر بينهم بإظهار عواطف الإخاء أو كرم الوفادة، كما أننا لم ننتهز الفرصة لوجود عدد كبير من جنود قوة دفاع السودان بسبب الحرب فنكرمهم كما كرمنا غيرهم من الأجانب من جنود الحلفاء، بل كنا فى غفلة حتى عن وجودهم بيننا مما يوجب الأسف. أننا لم نعن حتى بمجرد التعرف إليهم حتى كان العامة ينادون الواحد منهم بلقب رفيق أو يحادثونه بالأنجليزية ظناً منهم بأنه من الهنود مما ترك أسوأ الأثر فى نفوسهم عن جهل الشعب المصرى بهم، أى بفريق من أبناء النيل، مع أن أمرهم لم يخف على عين فريق من المواطنين وبعض الهيئئات والمؤسسات كالجمعية الزراعية وبنك مصر وغيرهما.
قابل هذا الجمود من جانبنا يقظة غيرنا لأبتلاع السودان، فقد وضع الأنجليز خططهم لذلك منذ نحو قرن من الزمان وزودوا بها غوردون عند قيامه من لندن فى يناير سنة 1882، من إخلاء السودان من المصريين ومن إرجاع ولاياته إلى سلالة حكامه الأقدمين، كفصل كردفان ودارفور، وتنصيب المهدى سلطاناً عليهما مع إقامة الزبير باشا حاكماً على باقى السودان، وقد حافظوا على تنفيذ هذه السياسة إلى الآن بينما نحن نغط فى سبات عميق.
والسؤال الذى طرحه نجيب فى رسالته للشعب المصرى وأجاب عليه هو لماذا يحرص الإنجليز على الأستيلاء على السودان؟ وفى إجابته وضح النقاط التالية:
- التحكم فى حياة مصر عن طريق التحكم فى مياه النيل، فنحن حتى لو تحولنا إلى الصناعة فإن ما لدينا من وقود لا يكفى، فلا بد لنا من إستخراج القوى الكهربائية من مساقط الخزانات، وهى فى ذلك خاضعة للتحكم فى مياه النيل .. كما أنه لا يستبعد أن يكون من نتائج مؤتمر الصلح تقسيم العالم إلى مناطق يختص كل منها بنوع معين من الإنتاج فتختص مصر بزراعة القطن والقمح وغيرهما من الحاصلات الزراعية، وقد نمنع من الصناعة إلى حد ما، لكى تتخصص كل دولة أو منطقة بنوع معين من أنواع الإنتاج.
- السودان بلاد بكر غنية بتربتها الخصبة ومراعيها الواسعة، كما أن بها ثروة معدنية لا يستهان بها كالذهب وغيره، فضلاً عن حاصلات الغابات وحيواناتها.
- لمنع إنتشار الإسلام إلى ممتلكاتهم الأفريقية جنوباً.
- للإنتفاع بتجنيد أبناء جنوب السودان، وليجعلوا من ضم هذا الجنوب إلى ما يجاوره من مستعمراتهم بلاد مسيحية، وإنشاء جامعة زنجية يستعينون بها على إخضاع الشماليين عند اللزوم.
- لأن وحدة وادى النيل تجعل منه قوة هائلة تقع على طريق الأمبراطورية، كما يصبح وادى النيل السلسلة الفقرية للبلاد العربية والإسلامية الممتدة من المحيط الأطلنطى غرباً إلى الملايو والصين شرقاً، ومن شمال البحرالأبيض المتوسط وآسيا الوسطى شمالاً إلى جنوب أفريقيا وجزر الهند الشرقية جنوباً.
- لأهمية السودان من الناحية الإستراتيجية، حتى تتمكن من السيطرة على البحر الأحمر بشكل كامل.
- منع إنتشار الشيوعية وغيرها من المذاهب التى قد تجئ إلى مصر من الشرق أو الشمال فلا تنتقل إلى ممتلكاتهم فى الجنوب وفى غرب أفريقيا.
لقد وضح لبريطانيا العظمى كيف أنه أزدادت ثروة السودان وسكانه بإضطراد، وسكانه من عنصر حربى شديد المراس، فأن وصل إلى عنفوان قوته وثورته فلن يتركوه يصل إلى أوج مجده وعزته فتنتشر هذه العدوى إلى مستعمراتهم المحيطة به، وهم لكى يستطيعوا حكمه لابد لهم من تقسيمه إلى ولايات خمس أو ست يبذرون بينها بذور الفتنة والبغضاء لأضعافه وإخضاعه لحكمهم، وقد يتذرعون بميثاق الأطلنطى الذى ينص على تقسيم العالم إلى دويلات كل مجموعة منها تتألف من عنصاصر متجانسة متآلفة، فظهر هذا التقسيم كما يلى:
![]() |
خريطة مشروع أعده الأنجليز لتمزيق السودان إلى ولايات تجعل منه هند ثانية |
- يضمون جنوب السودان إلى أوغندة وكينيا وغيرهما مما سلخوه من الإمبراطورية المصرية العظيمة، ليؤلفوا من ذلك جامعة زنجية مسيحية يحاربون بها العرب والإسلام، وهذه أعمالهم فى جنوب السودان منذ إسترجاعه سنة 1898 إلى الآن (سنة 1949) كلها تشهد بذلك.
- قد يسلخون شرق السودان (كسلا والبحر الأحمر) وسكانه هم قبائل البيجا Bega كالبشاريين والهدندوه Hadandowa وبنى عامر وغيرهم ويضمون إلى ذلك جزءاً من أريتريا وبعض أنحاء الحبشة مما يقطنه مسلمو هذين الأقليمين من قبائل مشابهة فى أريتريا وجالا فى غرب الحبشة. وقد صرح بعض رجالهم المسئولون فعلاً بما يشبه ذلك لبعض الزعماء من السودانيين، فقال أنهم سيضمون إلى المديرية الشرقية أراضى السهل المنخفض من أريتريا الذى يسميه الإيطاليون Basso Piano، وربما ضموا إليها أقليم الدناقل Danakala الذى يمتد على ساحل البحر الأحمر من حدود السودان إلى ميناء عصب، ومنالأسباب التى يعللون بها ذلك وضع القبائل التى تقيم على الحدود تحت إدارة واحدة لمنع الشقاق بينها.
- وقد يفصلون كردفان ودارفور على أن يولو على الأولى السيد محمد على التوم ناظر قبائل الكبابيش وعلى الثانية إبراهيم موسى مادبو زعيم قبائل الرزيقات.
- كما يولون على باقى السودان الممتد على النيل من حدود مصر الجنوبية إلى الجبلين (خط عرض 12 درجة شمالاً) زعيماً آخر أو يقسمون هذا الجزء من شمال دنقلا إلى حدود مصر فيجعلون منه ولاية أخرى للنوبة، فيصبح السودان مقسماً إلى خمسة أو ستة أقسام يؤلفون منها أتحاداً تحت إشرافهم وسلطانهم وبذلك يصبح السودان هند ثانية.
إن الأنجليز لن يتركوا السودان سليماً بعد أن دربوا أبناءه على وسائل الحرب الحديثة وهم الذين بلغ عدد ثوراتهم من سنة 1898 إلى سنة 1924 أكثر من مائة وتسع ثورات أيام كان سلاحهم الرمح والسيف. إن السودان ومساحته نحو المليون من الأميال المربعة وسكانه نحو التسعة ملايين كلهم من خيرة المحاربين شجاعة وبأساً، ومن أقواهم إيماناً بحب الوطن، وبه من الثروة الطبيعية ما يجعل منه قوة هائلة، إذا أنضمت إلى مصر جعلت من وادى النيل إمبراطورية تفوق ما كانت عليه فى عهد الخديوى إسماعيل، تقع على طريق الأمبراطورية وتجاور مستعمراتهم، فكيف يسمح الأنجليز بذلك؟
ولذلك لابد لهم من فصل السودان عم مصر أولاً، ثم لابد لهم من تمزيق السودان أرباً، ليجعلوا منه هند ثانية، ثم لابد بعد ذلك من إيقاع العداوة والبغضاء بين مصر والسودان بل وبين أجزاء السودان المختلفة، وليس أسهل عليهم من أحداث الشقاق، فهم أساطين مذهب "فرق تسد" الذين حرضوا ولايات الأمبراطورية العثمانية على خليفة المسلمين.
وبالطبع هناك وسيلتين محتملتين، فإما أن يوعزوا للسودان بطلب أجر عن ما النيل وصيانة خزاناته وتعويض عما تغرقه هذه الخزانات من أراضى السودان مما يحولها إلى مستنقعات، تضر بصحة الآهلين ليحدث الشقاق، وإما أن يغروا السودان بطلب ضم أقليم البشارين الواقع جنوب مصر الشرقى ضمن ما يسمى بالحدود الإدارية فيما يلى بئر الشلاتين جنوباً، وبطلب ضم أراضى النوبة التى فى جنوب أسوان إلى حدود السودان، إستناداً إلى أن حدود مصر الجنوبية بموجب فرمان 13 فبراير 1841، التى كانت تمتد من نقطة خمسة على البحر الأحمر مارة جنوب أسوان بقليل حتى تلاقى حدود مصر الغربية.
وبالرغم من كل الرسائل التى كتبها نجيب وقت أن كان بكباشى إلا أنه وهو فى الرئاسة أرسل خطاباً موجه لشعب السودان سنة 1953 قال فيه:
أخوانى وأبنائى فى جميع أنحاء السودان
أنى لأهيب بكل سودانى أن يتجرد تجرداً تاماً من المصالح والمطامع الشخصية، فلا ينظر إلا إلى الصالح العام لوطنه والإخلاص التام لبلاده كى يؤدى واجبه فى هذه الفترة الحرجة من حياة السودان بما يرضى الله ورسوله والوطن ذلك أن السودان يحتل من قلبى ومشاعرى ونفسى ما لمصر من مكانة ومعزة فقد نشأت وترعرعت فى جنباته وبين أخوانى من أبنائه. ويعلم الله العزيز القهار مبلغ ما بذلت من جهود مضنية متواصلة حتى أنتهينا إلى توقيع أتفاقية السودان التى أعترفت بحق السودانيين فى تقرير مصيرهم ولكن هذه الأتفاقية ليست هدفاً فى ذاتها بل هى سبيل كفاح تفرضه الوطنية على كل سودانى حتى يصل ببلاده إلى ما نرجوه لها من حرية وعزة وكرامة..
عليكم يا أخوانى ويا أبنائى بالحرص كل الحرص على مستقبل وطنكم وكلكم عزيز على مهما كانت ميولكم ومعتقداتكم السياسية حتى يتم لكم بأذن الله تعالى أستخلاص الوطن السودانى من السيطرة والإستعمار والظفر بالحرية والكرامة"
وها هو التاريخ يعيد الكرة من البداية ويمكن أن ترسل رسائل الرئيس محمد نجيب مرة أخرى لأبناء السودان الذى لم يعى الدرس فى المرة الأولى، ولكن ليس الأنفصال هذه المرة بين مصر والسودان، ولكن هذه المرة بين السودان نفسه الذى بدأ يتمزق أرباً، فالسودانيين تغافلوا عن وطنهم الأم السودان تلك الأرض المليئة بالخيرات من لدن الله، ولكن ينقسها الرغبة القوية والأمانة الصادقة فى حمل لواء العمل من أجل سودان حرة، وفى الوقت الذى توحدت فيه أوروبا بين شرقها وغربها ليقضوا على الفقر والبطالة ومعاناة الأنسان الأوربى، كان المواطن العربى يبحث عن أسباب الأنشقاق بالفتن والمؤامرات والحروب والقتال لكى يقضى على الآخر، ولكنه فى الحقيقة يقضى على نفسه أولاً!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق